Speaking Truth To Power [Arabic]

إذا لم يقل العلماء كلمة الحق للسلطة فمَن سيقول؟

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
[الأعراف: آية 164 – 165].

هذه الآيات مستخلصة من قصة بني إسرائيل في القرآن الكريم وبغيهم في الأرض، وذلك لفعلهم ما نُهوا عنه من اصطيادهم السمك يوم السبت. يقول الإمام القرطبي في تفسيره: انقسم بنو إسرائيل وَفق هذه الآيات إلى ثلاث فرق: فرقة أكملت اصطياد السمك يوم السبت، وهي العاصية. وفرقة نهتهم عن فعلتهم واعتزلتهم. وفرقة ثالثة صمتت، لم تعصِ، ولم تنهَ الأولى عن بغيها. ولعلمهم بالعذاب المتوقع سألت الفرقة الثالثةُ الفرقةَ الواعظة قائلة:

{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ}
؟

وعلى الرغم من وضوح نزول العذاب على الفرقة العاصية من بني إسرائيل، والتي خالفت الأمر بعدم الصيد، ونجاة الفرقة الناهية، فإن مصير الفرقة الثالثة كان أقل وضوحًا. وقد فضَّل الإمام القرطبي الرأي القائل بنجاتهم أيضًا؛ لا لأنهم لم يعصوا فحسب، ولكن لأنهم أعلنوا عن اعتراضهم على عصيان الأمر بعدم الاصطياد يوم السبت؛ فاعتزلوا القوم حتى نزل العذاب بالفرقة الأولى.

إن أهمية هذه القصة القرآنية الكريمة تقع في المبدأ الذي تُعلِّمه، والذي يدور حول المتوقع من المؤمن عندما يرى بغياً أمام عينيه. وهاتان الآيتان هما بمثابة تعليق على آيتين أُخريين من القرآن الكريم، أولاهما من سورة البقرة:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
[البقرة: آية 143]. وبوصفنا مسلمين، يخبرنا النص القرآني هنا عن الخصلة التي تميزنا نحن المؤمنين، وكيفية تحويلها إلى فعل. وقد جاء في بيان معنى هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر معنى (أمة وسطًا) بأنها أمة (عادلة).

أما الآية الأخرى فهي في سورة آل عمران:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
[آل عمران: آية 110] . ويشير الإمام القرطبي هنا في تفسير هذه الآية أن خير أمة هنا المقصود بها الصالحون، وأهل الفضيلة من بين المسلمين، وهم - وَفق المذكور في سورة البقرة -
{شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
.

خلال الأعوام الثلاثة السابقة جرى على مرأى ومسمع من مجتمعنا المسلم أحداث عجيبة في المجال السياسي، وبخاصة في الشرق الأوسط: فأمامنا حكام طغاة، أخضعوا الشعوب بالقهر أمامهم، فأطيح بهم من فوق كراسيهم، ولكن حل محلهم حكام طغاة آخرون، كما هو الحال في مصر. وقد شاهدنا قبل هذا - بل ما زلنا نشاهد - استبسال أهل غزة في مقاومة الاعتداء الدوري من الإرهاب الصهيوني المدعوم بأسلحة الولايات المتحدة، والذي تسانده حكومات مصر والأردن، والتي أغلقت حدودها للتأكد من خنق الفلسطينيين، والتأكد من استمرارهم فريسةً سهلة.

وقد شاهدنا حكومات السعودية والإمارات تدعم الجيش المصري في انقلابه لبعث النظام القمعي الذي انتفض المصريون ضده.

شاهدنا تنفيذ مذبحة مدبرة في ميدان رابعة، والتي أعترفُ بكونها من أفظع أحداث القتل غير المشروع في تاريخ مصر الحديث. وسمعنا كذلك عن حكومة السعودية التي خصصت 533 مليون دولار لإنشاء سجنين جديدين في الرياض وجدة؛ وذلك لأن سجونها "مكتظة بالكامل"، مع العلم بأنه حتى يومنا هذا هناك أكثر من 40 ألف سجين رأي في سجون السعودية.

يمكن للمرء أن يملأ الصفحات بفظائع الحكومات في العالم الإسلامي، ولكن عندما يتطرق الأمر لعلمائنا البارزين، وخاصة من يعيشون في الشرق الأوسط، فإننا نكاد لا نسمع كلمة واحدة منهم ضد تلك الانتهاكات. بل الأسوأ من ذلك هو أننا نشاهد بعض العلماء يدعمون تكتيكيًّا تلك الأنظمة بأفعالهم، أو يقفون مع الظالم ضد المظلوم، وكله تحت عباءة الدين.

نسمع علماءنا غالباً متحدثين ضد السياسة الخارجية الأمريكية، وجوانتانمو، مستشهدين بتقرير منظمة العفو الدولية الذي يبين كيف أن هجمات الطائرات بدون طيار الأمريكية قد أحصت العديد من أرواح الأبرياء في باكستان. ولكن القاسم المشترك بين كل الإدانات هو أنها جميعًا تتحدث عن قوات خارجية تهاجم مسلمين، ولكن عندما يتعلق الأمر بشؤوننا الداخلية نرى الكثير من علمائنا إما صامتين، أو ملتصقين بالحكام لالتقاط الصور معهم، بعد الدعاء لهم بالتوفيق!

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
[الرعد: آية 11]. كثيراً ما نسمع هذه الآية الكريمة يستشهد بها في سياق وجوب تزكية القلوب كشرط من المولى لتغيير أحوالنا السائدة. لكن على الرغم من أن لهذا جانباً من الصحة، فإن هذه القصة لم تكتمل بعد، فليس في الآية ما يوحي بأن التغيير الخارجي سيأتي دون جهد خارجي (مادي) من قبلنا. بالإضافة إلى هذا فإن الآية لا تتحدث عن الفرد وحده، ولكن تتحدث عن الجماعة كلها. فإذا ما حاولنا ترجمة الآية السابقة لكي تتحدث عن أوضاعنا فقد يعني هذا أن الله لن يوقف الاعتداءات الخارجية ضد قوم ما، وإخضاعهم للقمع على يد قوى خارجية، حتى يغيروا من أوضاعهم الداخلية، الأمر الذي سيتبعه التغيير الإلهي في المقام الأول.

وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُمْ وَأبْوَابَ السُّلْطَانِ؛ فَإنَّهُ قَدْ أصْبَحَ صَعْبًا هَبُوطًا» (رواه الطبراني في المعجم الكبير). بالإضافة إلى هذا التحذير وأمثاله في السنة نجد أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد بين استثناءً واحداً للذهاب إلى السلطة، فقال: «أَعْظَمُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (رواه أحمد وابن ماجه). إن هذه التعاليم القرآنية والنبوية هي التي أظهرت لنا صفحات مشرقة من تاريخنا لعدد من العلماء العظام الذين وقفوا ضد الطغاة، حتى لو تخطى الأمر مجرد سجنهم وتعذيبهم، فوصل إلى مرحلة القتل بأبشع الصور.

إن مسؤولية قول كلمة الحق عند العلماء هي أعظم الآن من أي وقت مضى. فعدد كبير منهم، أكثر مما ينبغي، لا يقدّرون مدى إحاطة العديد من أفراد المجتمع المسلم بالسياسة والأحداث الجارية، وسكوت العالِم على أحداث بغي جائرة يُعلِّم المسلمين السكوت عن تلك الأحداث عندما تقع. وبالنسبة للعلماء الذين يقفون في صف الطغيان فالأمر لا شك أسوأ. فلم يعد من المقبول مقارنة عالم ما بالخَضِر عليه السلام، وإظهاره بأنه يعرف أمرًا نجهله جميعًا، ويتذرع بهذه الذريعة ليلقي المسؤولية الأخلاقية عن عاتق علمائنا، استنادًا إلى سلوك خارجي.

إننا نعيش في عالم تتاح فيه المعلومات أكثر من أي وقت مضى، وقد يعني الادعاء بأن عالمًا ما قد يعرف أمرًا لا نعرفه نحن أنه يشارك في المؤامرات التي يدبرها الحاكم؛ وذلك لقربه منه ولمعرفته بما يدبر في الخفاء. وهذه المؤامرات تؤدي إلى قتل جماعي غير مشروع، وسجن لآخرين بغير وجه حق, وكل ذلك يوحي بأن العالم يتقبل كل هذا الجور لأنه لا يحرك ساكناً فقط، وإنما يعلم به مسبقا وهو راض عنه.

كان من المفترض في العلماء المسلمين أن يكونوا ورثة الأنبياء، فهم يمثلون البوصلة الأخلاقية للمجتمع المسلم بشكل أوسع. ومن المؤكد بشكل مطلق أن معرفة الوضع القائم ومقاومة الطغيان هو من صميم مسؤوليتهم، وإلا فلا نستطيع أن ندعي أننا خير الأمم، أو الشهداء على الناس، وَفْق ما وصفنا الله سبحانه وتعالى به، وليس معنى هذا أنه يجب على كل عالم أن يكون له رأي في السياسة، بل يجب على كل فرد من العلماء على الأقل أن يدين الطغيان عندما يتجلى أمام العيان، وإلا فلن نستطيع بعد ذلك أن ندعي أمام الناس أننا أصحاب الأخلاق السامية والمثل العليا!

إن تخلى العلماء عن دورهم الإرشادي للناس فسوف نجد العوام يأخذون زمام الأمور بأيديهم. وفي حال وقوف علماء بارزين إلى جانب الظلم سنجد بعض المسلمين ينتقصون من العِلم الإسلامي. ومن النتائج المترتبة على هذا، التطرف الذي نشهده اليوم من مجموعة تطلق على نفسها اسم الدولة الإسلامية، فجميع الرجال الذين انضموا إلى هذا الفصيل يشنّعون على العلماء البارزين، وبخاصة هؤلاء الذين لهم مواقف مخزية في الوقوف إلى جانب الطغيان ضد المسلمين العزل، وبهذا سيكون عهد الإدانات اللفظية ضد هؤلاء المتطرفين، والتبرؤ من أفعالهم، قد ولى وانتهى. وذلك لسؤال واحد بسيط يطرح نفسه: (أين كنتم قبل اليوم؟).

Share:

Academic Related Articles